هجوم موسكو- داعش وتبني أم توظيف خفي وأهداف خفية؟

مرة أخرى، يطل علينا تنظيم "داعش"، الاسم المرتبط بالفظائع الإرهابية، وذلك بعد إعلانه مسؤوليته عن الاعتداء الآثم الذي استهدف مركز "كروكوس سيتي هول" التجاري في ضواحي موسكو في مساء يوم الجمعة الدامي، الأمر الذي أسفر عن سقوط عشرات القتلى والجرحى.
الصور المروعة التي تم بثها، إلى جانب شهادات الناجين المروعة، أكدت بما لا يدع مجالاً للشك أن المهاجمين كانوا يهدفون إلى إيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا الأبرياء، وذلك من خلال إطلاق النار بشكل عشوائي وبلا تمييز على رواد الحفل الموسيقي الذي كانت تحييه فرقة روك، بالإضافة إلى إضرام النيران في المسرح باستخدام قنبلة أو مواد أخرى شديدة الاشتعال.
هذا الهجوم المروع وصفه محللون روسيون بأنه يمثل هجومًا جديدًا على غرار أحداث 11 سبتمبر، ولكنه هذه المرة يستهدف روسيا، التي تخوض حربًا شرسة ضد أوكرانيا وحلفائها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.
التنظيم يتبنى وموسكو تشكك
لم يتردد تنظيم "داعش" في إعلان مسؤوليته عن هذا الهجوم الإجرامي بعد فترة وجيزة من وقوعه، حيث نشرت وكالة "أعماق" التابعة للتنظيم بيانًا منسوبًا إلى "مصدر أمني" يؤكد فيه أن مقاتلي "الدولة الإسلامية" استهدفوا تجمعًا لـ "النصارى" في ضواحي العاصمة الروسية، وأنهم تمكنوا من الانسحاب إلى قواعدهم بسلام.
لكن روسيا، التي تمتلك خبرة واسعة في التعامل مع هذا التنظيم في سوريا، وتدرك تمامًا كيف تم استخدامه هناك لتقويض ثورة الشعب السوري، أبدت شكوكًا عميقة حيال هذا البيان، وأكدت أنه لا يعكس الحقيقة على أرض الواقع.
إذ تدرك موسكو تمام الإدراك أن هذا التنظيم، حتى لو كان هو المنفذ الفعلي للهجوم، إلا أنه مخترق أمنيًا من قبل أجهزة استخبارات عالمية، ويتم استغلاله بشكل أساسي لخدمة أجندات دولية خفية، وهو ما حدث بالفعل في سوريا والعراق وإيران وغيرها من الدول.
فمنذ أيام قليلة، أعلن التنظيم مسؤوليته عن هجوم انتحاري وقع بالقرب من أحد البنوك في ولاية قندهار الأفغانية، والذي أسفر عن مقتل ستة وعشرين شخصًا.
هذا الهجوم الذي استهدف موسكو يثير تساؤلات مشروعة حول الأهداف الحقيقية التي يسعى التنظيم لتحقيقها من خلال هذه العملية الإجرامية، أو حول الأهداف التي دفعت الجهات التي قامت بتجنيده لتنفيذها. ولكن قبل كل شيء، دعونا نلقي نظرة سريعة على الأفكار التي يحملها هذا التنظيم، وكيف تحولت في فترة زمنية وجيزة إلى أفكار عابرة للقارات.
رحلة أفكار التنظيم
قد يجهل الكثيرون أن البذور الفكرية التي يستند إليها التنظيم في تحركاته قد بدأت في التبلور في قرية "كحك" الصغيرة بمحافظة الفيوم المصرية، حيث قام شخص يدعى "شوقي الشيخ" بتأسيس تنظيم يهدف إلى الاستيلاء على أموال الناس بحجة عدم ثبوت دخولهم في الإسلام بشكل صحيح. إلا أن أجهزة الأمن المصرية تمكنت في عام 1990 من القضاء عليه وعلى مجموعة من أتباعه إثر اقتحام القرية، واعتقلت آخرين، فيما عرف إعلاميًا بقضية "الشوقيين".
بعد وفاة شوقي الشيخ، انتقلت الزعامة الفكرية والتنظيرية إلى حلمي هاشم، الذي كان يعمل ضابطًا في وزارة الداخلية المصرية، وترقى حتى وصل إلى رتبة عقيد في مصلحة السجون، قبل أن يتم كشف أمره واعتقاله في عام 1982 على خلفية انتمائه إلى تنظيم الجهاد، ليتم فصله على إثر ذلك من الخدمة.
بعد تركه العمل في وزارة الداخلية، قام حلمي هاشم بتأسيس مكتبة في القاهرة، وبدأ في نشر مؤلفاته تحت اسم مستعار هو "شاكر نعم الله"، والتي ضمنها توجهه الفكري الجديد، حيث يعتبر المنظر الفعلي والأهم للجماعة التي عرفت إعلاميًا باسم "التوقف والتبين"، وقام بتطوير أفكارها وتوسيع نطاق مسائلها.
تركزت أفكار حلمي هاشم حول ضرورة التوقف في الحكم بإسلام الناس، حتى وإن كانوا قد ولدوا وترعرعوا في مجتمعات مسلمة ومن أبوين مسلمين، وذلك حتى يتبين إقرارهم بالتوحيد وتكفير "الطواغيت" وزوار الأضرحة وغير ذلك.
وهنا يختلف حلمي هاشم مع أفكار جماعة التكفير والهجرة التي أسسها شكري مصطفى في سبعينيات القرن الماضي، والتي كانت تحكم بكفر المسلمين بسبب الإصرار على ارتكاب المعاصي وموالاة الحكام الذين يمتنعون عن تطبيق شرائع الإسلام.
هذه الأفكار التكفيرية شكلت الحمولة الفكرية لتنظيم "داعش" بعد انفصاله عن تنظيم القاعدة، حيث أشارت تقارير صحفية إلى أن هاشم كان يتمتع بمكانة "شرعية" متميزة داخل التنظيم، وكان مقربًا من زعيمه السابق، أبو بكر البغدادي، واستغل هذه المكانة لنشر أفكاره داخل التنظيم.
وعلى الرغم من هذا الحضور الفكري "المصري" القوي في التنظيم، سواء من خلال هاشم أو بعض الشرعيين الآخرين، إلا أن المفارقة تكمن في أن الدول التي قدمت أكبر عدد من المقاتلين للتنظيم كانت تلك التي تصنف على أنها علمانية، مثل تونس والدول الإسلامية في آسيا الوسطى والجمهوريات المسلمة في الاتحاد الروسي، بالإضافة إلى الجيل الجديد من مسلمي أوروبا الذين ولدوا وترعرعوا هناك، وخاصة في فرنسا!
ولكن هل تمنح هذه الأفكار الشاذة التنظيم فرصة للانتشار والتوسع في رقعة جغرافية واسعة تمتد من آسيا إلى أفريقيا وصولًا إلى أوروبا مرورًا بالشرق الأوسط؟ بالطبع لا.
هنا يجب أن تتوفر روافع استخباراتية عالمية قادرة على توفير البيئات المناسبة للانتشار، سواء كانت هذه البيئات افتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي أو حقيقية على أرض الواقع، ومن ثم استغلال التنظيم لخدمة أجندات خفية وتحقيق أهداف متنوعة تختلف باختلاف المكان. ولعل قضية شركة "لافارج" العملاقة للإسمنت وعلاقتها بتمويل التنظيم في سوريا بمعرفة المخابرات الفرنسية، والتي تم الكشف عنها في عام 2017، توضح لنا الكثير في هذا الصدد.
هذا العرض الموجز لأفكار التنظيم يقودنا إلى الحديث عن الأهداف التي يسعى لتحقيقها من خلال تبني هجوم موسكو.
أهداف الهجوم
على الرغم من تبني التنظيم للهجوم ونجاح السلطات الروسية في القبض على منفذي الهجوم أثناء محاولتهم الفرار إلى أوكرانيا، فإن المسؤولين الروس، وعلى رأسهم الرئيس فلاديمير بوتين، لديهم قناعة راسخة بأن التنظيم ليس سوى "أداة" يتم تحريكها على رقعة "الشطرنج" الدولية، وأنه تم استخدامه من قبل دول أخرى لتنفيذ هذا الهجوم.
فوزارة الداخلية الروسية أكدت في بيان رسمي أن جميع منفذي الهجوم من جنسيات أجنبية، ولا يوجد بينهم أي مواطنون روس.
كما عززت اعترافات أحد المتهمين هذه الشكوك، حيث أكد أنه شارك في الهجوم مقابل الحصول على المال، وأنه تم تجنيده من خلال مجموعة على تطبيق "تليغرام"، دون أن يعرف هوية المسؤول، مضيفًا أنه عثر على السلاح مخبأ في أحد الأماكن التي تم توجيهه إليها، مشيرًا إلى أنه وصل إلى روسيا قادمًا من تركيا في وقت سابق من الشهر الجاري.
من هنا، فإن الجهات التي قامت بتجنيد التنظيم لتنفيذ هذا الهجوم كانت تهدف إلى تحقيق ما يلي:
أولاً: إعادة إحياء ظاهرة الإسلاموفوبيا ووضعها في الواجهة من جديد، وذلك بهدف محاصرة التعاطف الواسع الذي حظي به المسلمون بسبب العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، والضرر البالغ الذي لحق بالحركة الصهيونية نتيجة للمجازر المروعة التي ارتكبت ضد المدنيين، وخاصة النساء والأطفال. وقد تابعنا خلال الأشهر الماضية كيف تصاعدت وتيرة العداء والرفض للحركة الصهيونية في معاقلها التقليدية في الولايات المتحدة وأوروبا.
ثانيًا: زعزعة الاستقرار الداخلي في روسيا وإظهارها بمظهر الدولة الضعيفة والهشة أمنيًا. كما أن توريط عناصر مسلمة في تنفيذ هذا الهجوم قد يساهم في تقويض الاستقرار الاجتماعي داخل الاتحاد الروسي، حيث يعيش أكثر من عشرين مليون مسلم يتمتعون بكافة حقوقهم الدينية والمدنية دون أي تمييز. خاصة وأن مسلمي جمهورية الشيشان يلعبون دورًا حيويًا في القتال إلى جانب القوات الروسية في حربها ضد أوكرانيا.
ثالثًا: تأزيم العلاقات المتوترة بالفعل بين تركيا وروسيا، حيث اعترف أحد الموقوفين بأنه قدم إلى روسيا من تركيا. وقد جرت محاولات سابقة لجر البلدين إلى المواجهة، أبرزها عندما تم إسقاط طائرة حربية روسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 بواسطة طائرة مقاتلة تركية، إضافة إلى اغتيال السفير الروسي لدى تركيا في ديسمبر/كانون الأول 2016 بواسطة شرطي تركي.
ومع ذلك، تم احتواء مثل هذه الأزمات من قبل الدولتين، إلا أن موقف تركيا المحايد من الصراع الروسي الأوكراني لا يلقى قبولًا لدى حلفائها في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، الذين يسعون في هذه المرحلة المتقدمة من الصراع إلى إشعال أزمة جديدة بين البلدين، وإجبار تركيا، التي تتشارك مع روسيا في البحر الأسود، على التخلي عن حيادها والمشاركة في تعزيز الجهود العسكرية ضد روسيا.
تأكيدًا لما سبق، فإن التحقيقات الجارية ستكشف النقاب عن تفاصيل كيفية تنفيذ هذه العملية، وما إذا كانت عناصر التنظيم قد تم استغلالها بالفعل في هذه العملية أم أن اسمه تم استخدامه بعد وقوعها للتغطية على الفاعل الأصلي.
وعلى أي حال، فإن الرد الروسي لن يقتصر على مجرد استهداف التنظيم، بل سيشمل أيضًا الجهات التي تقف وراءه، والساحة الأوكرانية مهيأة لمثل هذه الردود.
أما تهديدات تنظيم "داعش"، فستظل تطارد الدول المسلمة على المستويين الفكري والأمني، في ظل الإصرار على مواجهة الخصوم السياسيين بدلًا من مواجهة الأعداء الحقيقيين.
